من منّا لا تضطرب مواقيته في رمضان، لا يصبح
ليله نهاراً وفي النهار يعجز عن إبقاء عينيه مفتوحتين، مما يحول نشاطاتنا من
مسائية إلى ليلية.
ما أحاول الوصول إليه هنا، أنني لأغراض
الحفاظ على الوزن وموازنة الوقت واجتناب الكسل بدأت منذ ليلة أمس الخروج للمشي
ليلاً، تحديداً في تمام الساعة الحادية عشر بعد أن تكون قد انتهت صلاة التراويح
وخلت الشوارع من ازدحام المصلين بارك الله بأعدادهم وصلاتهم.
خرجت أمس دون تردد من تأخر الوقت، أو الشعور
بالخوف من التعرض للمضايقات، لا لأننا بالشهر الفضيل فلو قمت بتلك التجربة بأي شهر
كان ستكون النتيجة ذاتها، أثناء المشي لمدة ساعة لم أتعرض حتى لمحاولة تحرش واحدة،
لم تتعرض لي سيارات المارة أو يضايقني المارة، لم أسمع حتى كلمة واحدة من شأنها
إزعاجي أو دفعي إلى الشعور بالخوف.
قارنت الأمر بين خروجي في منتصف الليل لممارسة
رياضة المشي، وبين خروج شيماء وجمانة في منتصف النهار للذهاب إلى الدرس وتعرضهن للخطف،
نعم، مصرّة أنا على أنه خطف، ولو كانتا قد ذهبتا بإرادتهما مع هذا الشخص فهو خطف كذلك
لكونهما قاصرات.
الطالبتان أعادتا لي ذكريات الثانوية، كنا قد
نلنا منحة أنا وثلاث فتيات أخريات للدراسة في إحدى مدارس المملكة الخاصة، اثنتان
من الثلاث فتيات كانتا على إلتزام ديني عالي، تجيدان تلاوة القرآن الكريم بصوت
مذهل، ملتزمتان باللباس الشرعي الكامل، متفوقتان في دراستهما، لا تفوتهما صلاة،
كان وجه الواحدة منهما يشع بالنور صدقاً كأنك تطالع ملاكاً، وكانتا تخرجان معنا في
أوقات التفسح والرحلات المدرسية بشكل طبيعي، وتمارسان الجنون الطبيعي الذي تمارسه
أي مراهقة في جمعة مع صديقاتها بعيداً عن أماكن المراقبة الرسمية للسلوك من مدارس
وبيوت ومراكز تعليم.
عندما رأيت صورة الفتاتين تذكرت صديقتاي
القدامى على الفور، ذات الملامح الملائكية والبراءة الطفولية، لذلك لا يمكنني بأي
شكل من الأشكال تصديق الرواية الأمنية، بالأخص مع تجربتي الخاصة في الروايات
الأمنية التي تم تأليفها عني سابقاً.
لندرس الرواية الأمنية، هل هناك فتاة
وبمواصفات الفتاتين ستقوم بشهر رمضان بترك بيتها في منتصف الظهيرة للتنزه، هل
ستقوم فتاة متفوقة في دراستها بإنهاء درسها والاصطدام بأي غريب بالشارع والطلب منه
خطفها، لو افترضنا أنهما فتاتان ساذجتان، هل هناك رجل بالغ راشد عاقل سيقوم بتنفيذ
طلبهما واختطافهما بناءً على رغبتهما وأخذهما إلى مدينة أخرى، وبناءً على طلبهما يقوم
بتقييدهما وتصويرهما وتجويعهما وابتزاز ذويهما، متسبباً بضجة إعلامية وحالة قلق
عام للأمن والدولة، لا بل ويحتفظ بهما لأيام خمس!!
هل هناك فتاة تطلب من رجل أن يقوم بخطفها ولا
يفهم ذلك ويستغله على أنه دعوة للتحرش بها!! فلماذا لم يفعل، وجاء التقرير الطبي
ليدل فقط على إصابتهما بالجفاف وارتفاع الأملاح دلالة التجويع.
للأسف الأمن العام مازال لم يتعظ مع تجربته
من انتهاك سمعة الفتيات وتشويهها، ولا أعرف أي ثمن ينوي أن يدفع قبل الاتعاظ من أخطائه،
ولو أن روايته صحيحة فواجب عليه القيام باعتقال الفتاتين على الفور وعرضهما على
القضاء ومحاسبتهما بتهمة الفساد لتسببهما بإهدار موارد الدولة وطاقاته الأمنية
أثناء عملية البحث عنهما.
هب أن فتاة بين جموع الفتيات العازبات
المغتربات لوحدهن هنا في الدوحة والآتيات من مختلف بقاع الأرض، هب أنها ذهبت إلى
الشرطة واشتكت على قيام مواطن بالتحرش بها، هل تعلم أن الأمن سيحضر هذا المواطن
ويحاسبه على فعلته حتى يتمنى لو أن أمه لم تلده! دون تعريض الفتاة لأدنى مستوى من
الإحراج، أو التشهير بها، أو الإساءة لسمعتها، أو تحويلها إلى موظفة رسمية في المركز
الأمني لكثرة طلبها للمراجعة، أو استغلال جرأتها في تقديم الشكوى والتحرش بها من
قبل رجال الأمن أنفسهم.
الأمن والأمان هنا حقيقة لا خيال وكذبة
واهية، عدم التكافؤ في الموارد ليس ذريعة، في الأردن من الخيرات ما هو أكثر ولكن
الأمر منوط بحكمة الدولة في إدارة مقدراتها، كذلك تفاوت أعداد السكان ليس ذريعة
للفلتان الأمني والتغطية عليه، لأن عدد السكان هنا تضاعف فجأة تماما كما ارتفع في
الأردن ولم يتضاعف، والمقارنة قائمة على الزيادة المفاجئة لا على مجموع السكان بعد
الزيادة، بالتالي من المفروض أن الدولة مازالت قادرة على توفير الأمن والأمان
لرعاياها، هل الحجة هي تنوع الجنسيات وانتشار الفقر والجهل، في الدوحة جنسيات أكثر
ومن بلاد الجهل والفقر فيها أكبر، مع ذلك الأمر تحت السيطرة، ثم أنه لا يجوز
للدولة السعي وبذل الجهد والتوسل والتسول لاستقبال اللاجئين وتلقي المساعدات
الدولية الخاصة بهم، والتي تكفي لتوفير حياة كريمة لهم وأكثر، ثم التذرع بهم وعدم
إمكانية احتمال طاقة الدولة وجودهم لتبرير فقدان السيطرة الأمنية!
في الدوحة يلتقي المرء بأشخاص من أقاصي
البلد، لا يفهمون لغتك الأم، وقد لا تفهم أنت لغتهم، لكن حالة الراحة النفسية
اتجاه الآخر متبادلة، لأنك في دولة تضمن لك حقك، تتعهد في حمايتك، أنتَ هنا لتعمل
بالتالي أنت تمنح الدولة مجهودك، بينما هي تمنحك بعد الله رزقك وأمنك وأمانك
وراحتك النفسية وتقدير جهودك واحترام حقوقك وضمان حمايتك، طبعا ً دون ذكر المنافع
الأخرى كالتأمين الصحي المجاني وغيره، كل هذا وأنت هنا مقيم لا مواطن، فأين دولتنا
عن حماية مواطنيها من اعتدائهم على بعضهم واعتدائهم على المقيمين فيها سواء
بالإهانة النفسية والمعنوية أو غيرها.
في الدوحة ستلتقي بالنيبالي والبنغالي
والباكستاني والهندي والسيرلانكي والفليبيني والإفريقي والأوروبي والأمريكي
والعربي، كل يعرف دوره ويؤديه، ويعرف حدوده ويلتزم بها، ويعرف واجباته ويقوم بها،
ويعرف حقوقه وينالها، ويعرف كيف يحترم نفسه باحترامه للآخرين.
الأسوأ في قضية الفتاتين أن نية الأمن في
بيانه كانت عدم ترويع المواطنين من وجود فلتان أمني واحتمالية فقدان السيطرة،
بينما كان الأولى به الإعتراف بوجود مشكلة عليه مواجهتها يداً بيد مع الشعب، دون
التعرض لكرامة وعرض هذا الشعب المسكين المغلوب على أمره، ودون الإستخفاف بعقل
المواطن بتأليف قصة سخيفة لا يصدقها عاقل، اليوم يثبت الأمن للمرة الثانية خلال
ثلاثة أعوام، أن خدمة الشعب وحماية المواطن ليست غايته ولا رسالته، وأن تشويه سمعة
الفتاة والتعرض لها في مجتمع عشائري ضيق تنتشر فيه الشائعات كالنار في الهشيم أسهل
مهمة عليه تأديتها في وظيفته.
أن لم أقم بالمقارنة بين الدوحة وعمان
كمحاولة لمسح الجوخ، من يعرفني يعرف أن وضعي هنا ضبابي وغير مستقر وقد أعود إلى
الديار بين ليلة وضحاها، وأن كلامي هنا بالأساس لا يوجد متابع له والقارئ الوحيد
هو من يعرفني من الأردن ويتابعني منها، ولكن البلد التي فتحت لي ذراعيها
واستقبلتني بهذه الرحابة، وقدمت لي هذا الشعور بالأمان وأنا هنا لوحدي ولم تقدمه
لي بلدي وأنا بين عائلتي وأهلي، واجبي أن أشكرها وأعترف بجميلها عليّ وعلى الآلاف
غيري، وأن أشيد بحكمة قيادتها التي إن وعدت بالأمن والأمان وفت بوعدها، ويحق لها
أن تفخر بنفسها بين الأمم، الدوحة المدينة الصغيرة التي أبرزت نفسها على خارطة
العالم لتصبح الوجهة الأولى للعمل
والإستقرار والإستثمار والتنمية الإقتصادية، الدولة متواضعة المساحة التي جعلت من
نفسها قائداً عملاقاً بين دول العالم، والتي فرضت إدراج عاصمتها بإعمارها وتنميتها
بمدة زمنية لا تذكرعلى قائمة أوائل مدن العالم، المدينة التي نهضت من الرمال
لتنافس أبرز مدن العالم الصناعية وتضاهيها بالتقدم، هذه هي الدوحة أعزائي، التي
عمّرت نفسها بالنفوس الطيبة والقلوب البيضاء وحب الوطن، ربما يكون قد أنهكنا
الفساد في الأردن حتى لم نعد نملك أيّاً من هذه الثلاث وباتت ممارسة الجريمة
والإعتداء على الآخرين وانتهاك كرامتهم وعرضهم، الطريقة الوحيدة لدينا للتنفيس عن
غضبنا، هل خلت الديرة حقاً من النفوس الرحيمة، ماذا بقي فيها إذن؟